إفريقيا وإسرائيل- بين إدانة غزة وتحديات التطبيع رغم الضغوط

المؤلف: د. محمود الحنفي09.15.2025
إفريقيا وإسرائيل- بين إدانة غزة وتحديات التطبيع رغم الضغوط

في أروقة القمة الأفريقية الثامنة والثلاثين التي احتضنتها أديس أبابا في شهرها الماضي، سطّر القادة الأفارقة موقفًا حازمًا وجليًا إزاء إسرائيل، حيث أدانوا بشدة الاعتداءات الإسرائيلية الغاشمة على غزة، واصفين إياها بعبارات قوية تصل إلى حد "الإبادة الجماعية". وطالبوا بوقف فوري وشامل لكافة أشكال التعاون مع إسرائيل حتى يتم إنهاء الاحتلال البغيض.

كما شدد البيان الختامي الصادر في ختام القمة على الرفض القاطع لسياسة التهجير القسري التي تمارس ضد الفلسطينيين، مؤكدًا أن حل الدولتين يمثل المسار الأوَّحد لتحقيق السلام العادل والدائم. ويعكس هذا الموقف التزام أفريقيا الراسخ والمديد بدعم القضية الفلسطينية العادلة، على الرغم من المساعي الحثيثة التي تبذلها إسرائيل لتعزيز نفوذها وتوسيع نطاق وجودها في القارة الأفريقية.

لقد شكل هذا الموقف الأفريقي الموحد نكسة حقيقية لإسرائيل، وذلك على الرغم من الضغوط الهائلة التي مارستها الإدارة الأميركية على القارة السمراء. فقد لجأت واشنطن إلى ممارسة ضغوط مكثفة على العديد من العواصم الأفريقية بهدف منع صدور قرارات حادة ضد إسرائيل، واستخدمت في سبيل ذلك أساليب مختلفة، بما في ذلك التهديد بتقليص المساعدات الاقتصادية المقدمة لبعض الدول، ومحاولة دفعها نحو تجنب اتخاذ مواقف تصعيدية في المحافل الدولية.

ومع ذلك، أظهرت الدول الأفريقية تماسكًا دبلوماسيًا ملفتًا، حيث أبت الانصياع للإملاءات الغربية وأصرت على التمسك بموقفها المستقل، مما يعكس تحولًا في موازين القوى ورغبة القارة المتزايدة في تبني قرارات تعبر عن مبادئها وقيمها المناهضة للاستعمار والتمييز العنصري.

وتتخذ القرارات داخل أروقة الاتحاد الأفريقي، الذي يضم في عضويته 54 دولة، من خلال مؤتمر الاتحاد الذي ينعقد سنويًا في شهر فبراير/ شباط ويجمع رؤساء الدول والحكومات. وتتخذ القرارات إما بالإجماع أو بأغلبية الثلثين. ويلعب المجلس التنفيذي، الذي يتكون من وزراء الخارجية، دورًا حيويًا في صياغة السياسات ورفعها إلى القمة للمصادقة عليها.

تاريخ العلاقات بين أفريقيا وإسرائيل

لقد شهدت العلاقات بين إسرائيل وأفريقيا تقلبات وتحولات عميقة على مر العقود الماضية. فمنذ الخمسينيات والستينيات، سعت إسرائيل جاهدة لتعزيز وجودها في القارة الأفريقية، مستغلة حصول العديد من الدول الأفريقية على استقلالها حديثًا.

وأقامت إسرائيل علاقات دبلوماسية مع دول مثل غانا وليبيريا، وشاركت بفعالية في مشاريع تنموية مختلفة، خصوصًا في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والتعليم. كما قدمت دعمًا لعدد من حركات التحرر الأفريقية، سعيًا منها لكسب نفوذ سياسي داخل القارة، وضمان دعمها في المحافل الدولية المختلفة.

إلا أن هذا التقارب والتودد شهد انتكاسة كبيرة عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، حيث أدى الحظر النفطي العربي والضغوط الدبلوماسية المكثفة التي قادتها جامعة الدول العربية إلى قطع معظم الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل، مما أدى إلى تدهور النفوذ الإسرائيلي في القارة بشكل ملحوظ.

بيدَ أن هذه العزلة لم تستمر طويلًا، إذ مثّل اتفاق أوسلو عام 1993 نقطة تحول محورية، حيث بدأت إسرائيل في استعادة علاقاتها تدريجيًا مع عدد من الدول الأفريقية، مستغلة الانفتاح الدولي الذي رافق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية.

فبعد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ترسخت قناعة لدى بعض الدول الأفريقية بأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يقترب من تسوية دبلوماسية، مما دفعها إلى إعادة تقييم علاقاتها مع إسرائيل.

وعلى إثر ذلك، عمدت العديد من الدول الأفريقية، خاصة في غرب وشرق القارة، إلى استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، مع التركيز على التعاون في مجالات الزراعة والتكنولوجيا والأمن.

وقد استغلت إسرائيل هذا التوجه الإيجابي لتعزيز وجودها وتوسيع نطاق نفوذها، حيث عملت على تقديم الدعم الفني والتدريبي في قطاعات إستراتيجية متعددة داخل أفريقيا.

وفي السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وأفريقيا ازدهارًا ملحوظًا، حيث تقيم تل أبيب علاقات رسمية مع 40 دولة أفريقية من أصل 54، وتدير 10 سفارات نشطة في القارة، تشمل دولًا بارزة مثل: جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا والكاميرون.

وقد لعبت موجة التطبيع العربي الأخيرة، خاصة بعد اتفاقيات أبراهام (2020)، دورًا محوريًا في تعزيز هذا التوسع، حيث شجعت دول عربية تربطها علاقات مع إسرائيل بعض الحكومات الأفريقية على تعزيز التعاون معها في مجالات الأمن والاستثمار والزراعة.

وعلى الرغم من هذه التطورات الإيجابية، لا تزال العديد من الدول الأفريقية حذرة ومترددة في تعزيز علاقاتها مع إسرائيل، وذلك بسبب التزامها الراسخ بدعم القضية الفلسطينية العادلة.

وتقود الدول التي عانت من ويلات الاستعمار والفصل العنصري، مثل جنوب أفريقيا، الموقف الرافض لتعزيز العلاقة مع إسرائيل، معتبرة أن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تعكس ممارسات الفصل العنصري البغيضة التي شهدتها القارة في الماضي. هذا الانقسام يجعل العلاقة بين إسرائيل وأفريقيا أسيرة للتوازن الدقيق بين المصالح الاقتصادية الحيوية والاعتبارات السياسية والتاريخية العميقة.

 تصاعد التوتر بعد الحرب على غزة

شهدت العلاقات بين إسرائيل والاتحاد الأفريقي تصعيدًا حادًا وملحوظًا عقب الهجوم الإسرائيلي الشرس على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والذي أسفر عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الأبرياء ودمار شامل وواسع النطاق في البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والطرق.

وقد أثار هذا العدوان الغاشم استياءً وغضبًا واسعًا في جميع أنحاء القارة الأفريقية، حيث أصدرت العديد من الدول بيانات إدانة قوية اللهجة، مجددة تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني المظلوم ورفضها القاطع للسياسات الإسرائيلية الظالمة.

لم يكن هذا الموقف الصارم والموحد مفاجئًا على الإطلاق، بل كان امتدادًا طبيعيًا لرفض أفريقي متزايد للتغلغل الإسرائيلي في القارة. ففي فبراير/ شباط 2023، وخلال قمة الاتحاد الأفريقي التي انعقدت في أديس أبابا، تم طرد الوفد الإسرائيلي بشكل مهين بعد اعتراضات قوية من جنوب أفريقيا والجزائر ونيجيريا، مما شكل ضربة دبلوماسية قاسية وموجعة لإسرائيل داخل القارة، وأدى إلى سحب صفة المراقب التي كانت قد حصلت عليها عام 2021.

وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة التي تبذلها إسرائيل لتعزيز وجودها وتوسيع نفوذها في أفريقيا عبر الاستثمارات الضخمة والمشاريع التنموية المتنوعة، فإن هذه المساعي تصطدم دائمًا باعتبارات سياسية وأخلاقية راسخة في الموقف الأفريقي.

فقد ظلت القارة الأفريقية وفية لتاريخها النضالي الطويل ضد الاستعمار والفصل العنصري، معتبرة القضية الفلسطينية العادلة امتدادًا طبيعيًا لكفاحها المرير من أجل الحرية والعدالة والمساواة، مما يعزز من تبنيها مواقف حازمة وصارمة ضد الاحتلال الإسرائيلي البغيض، بغض النظر عن المصالح الاقتصادية المحتملة.

أسباب العلاقة المتوترة

على الرغم من تزايد الاستثمارات الإسرائيلية في أفريقيا والجهود المتواصلة التي تبذلها تل أبيب لتعزيز نفوذها عبر مشاريع متنوعة في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا والأمن والبنية التحتية، لا تزال العديد من الدول الأفريقية تتبنى مواقف ناقدة تجاه السياسات الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

لقد ركزت إسرائيل بشكل خاص على تطوير تقنيات الري المتطورة والطاقة الشمسية النظيفة، وتوسيع مشاريع الاتصالات الحديثة والذكاء الاصطناعي المتقدم، إضافة إلى بيع أنظمة المراقبة المتطورة والأسلحة المتنوعة لبعض الحكومات الأفريقية. كما استثمرت بكثافة في مشاريع البنية التحتية الحيوية والخدمات الصحية الأساسية بهدف توسيع نطاق شراكاتها الإقليمية.

لكن هذه المساعي الاقتصادية الحثيثة لم تنجح في إحداث تغيير جوهري في مواقف الدول الأفريقية، وذلك لعدة أسباب جوهرية، أهمها:

  • القيم التاريخية والموروث النضالي

    تمتلك أفريقيا سجلًا تاريخيًا طويلًا وحافلًا بالكفاح والنضال ضد الاستعمار البغيض والفصل العنصري الظالم، وهو ما يجعل العديد من دولها ترى في القضية الفلسطينية امتدادًا طبيعيًا لنضالها المرير ضد الظلم والاضطهاد والقمع.

يعزز هذا الإرث التاريخي المشترك الشعور بالتضامن العميق مع الفلسطينيين، الذين يواجهون أوضاعًا مأساوية مشابهة لما عانته شعوب القارة السمراء من استعمار بغيض وقمع عنصري لا يرحم.

وقد كان هذا المنظور واضحًا وجليًا في مواقف دول مثل جنوب أفريقيا، التي وصفت الاحتلال الإسرائيلي بأنه "نظام فصل عنصري جديد"، ما دفعها إلى تقديم دعوى قضائية تاريخية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب "إبادة جماعية" في غزة.

  • ازدياد التضامن الشعبي والمدني مع فلسطين

تنامى الوعي الشعبي في أفريقيا بالقضية الفلسطينية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، ما أدى إلى تصاعد ملحوظ في حملات التضامن والمقاطعة ضد إسرائيل.

ففي دول مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا، شهدت السنوات الأخيرة تنظيم مظاهرات حاشدة وفعاليات واسعة النطاق دعمت حقوق الفلسطينيين المشروعة، ونددت بشدة بالانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة.

ونتيجة لذلك، أصبح الضغط الشعبي المتزايد عاملًا رئيسيًا يجبر الحكومات الأفريقية على تبني مواقف أكثر حزمًا وصرامة تجاه إسرائيل، على الرغم من الفوائد الاقتصادية المحتملة من التعاون معها.

  • التوازن الجيوسياسي وتقليل الاعتماد على الغرب

تشهد القارة الأفريقية تحولًا متزايدًا نحو تنويع تحالفاتها الدولية، حيث تعزز علاقاتها بشكل ملحوظ مع قوى عالمية صاعدة مثل الصين وروسيا، مما يقلل تدريجيًا من اعتمادها الكلي على الدول الغربية التي تقدم دعمًا غير مشروط لإسرائيل.

يساعد هذا التحول الإيجابي على منح الدول الأفريقية مساحة سياسية أوسع لتبني مواقف مستقلة تتماشى مع مصالحها الإستراتيجية العليا، دون الخضوع للضغوط الغربية المتواصلة.

وفي هذا السياق، تدعم روسيا والصين بشكل عام القرارات الدولية التي تدين السياسات الإسرائيلية الظالمة، مما يوفر دعمًا دبلوماسيًا قويًا للدول الأفريقية في تبني مواقف أكثر صرامة تجاه تل أبيب.

لماذا يبقى التطبيع مع إسرائيل محدود التأثير؟

على الرغم من المحاولات المتواصلة التي تبذلها إسرائيل لتعزيز وجودها ونفوذها في أفريقيا عبر الاستثمارات الضخمة والتعاون الاقتصادي المتنوع، إلا أن فاعلية هذا التطبيع لا تزال محدودة نسبيًا، حيث تصطدم المساعي الإسرائيلية بالاعتبارات السياسية والتاريخية العميقة للدول الأفريقية.

بالإضافة إلى ذلك، تسعى بعض الدول الأفريقية جاهدة لتعزيز تحالفاتها الإستراتيجية مع قوى دولية منافسة للغرب، مثل الصين وروسيا، مما يمنحها مساحة سياسية أوسع لتبني مواقف أكثر استقلالية في القضايا الدولية الحساسة، بما في ذلك القضية الفلسطينية العادلة.

وتلعب دول أفريقية رائدة دورًا محوريًا في هذا المجال، منها:

  • جنوب أفريقيا: قادت خطوات قانونية غير مسبوقة ضد إسرائيل برفع دعوى قضائية تاريخية أمام محكمة العدل الدولية في ديسمبر/ كانون الأول 2023، تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية مروعة في غزة. وأصدرت المحكمة أوامر طارئة ملزمة تطالب بوقف العمليات العسكرية العشوائية والسماح بدخول المساعدات الإنسانية العاجلة.
  • الجزائر: لعبت دورًا بارزًا وحاسمًا في منع إسرائيل من الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي، حيث ندّدت بشدة بالقرار المشين الذي صدر في يوليو/ تموز 2021، وقادت جهودًا مضنية بالتعاون مع جنوب أفريقيا ونيجيريا لتعليق القرار في فبراير/ شباط 2023. كما أكد الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون مرارًا وتكرارًا أن أي تقارب مع إسرائيل مرهون بتحقيق إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة.

رغم أن إسرائيل نجحت في إقامة علاقات دبلوماسية مع 40 دولة أفريقية من أصل 54، فإن تأثير وفاعلية هذا التطبيع يبقى محدودًا وضئيلًا، كما تجلى بوضوح في الموقف الحازم والجريء للقمة الأفريقية الأخيرة.

فالدول الأفريقية، على الرغم من المصالح الاقتصادية المشتركة، لا تزال تنظر إلى إسرائيل باعتبارها دولة احتلال تمارس سياسات الفصل العنصري البغيضة ضد الفلسطينيين، ما يضعف بشكل كبير من فاعليتها الدبلوماسية وتأثيرها داخل القارة.

وبينما تسعى إسرائيل جاهدة لتعزيز وجودها وتوسيع نفوذها، تبقى أفريقيا ساحة توازنات دولية معقدة، حيث تلعب المواقف التاريخية الراسخة والتحالفات الجديدة المتشكلة دورًا رئيسيًا وحاسمًا في تحديد مستقبل العلاقات الأفريقية-الإسرائيلية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة